فصل: فصل (طهارة سؤر الآدمي والفرس وما يؤكل لحمه)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاختيار لتعليل المختار ***


الجزء الأول

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي شرع لنا دينا قويما، وهدانا إليه صراطا مستقيما، وجعلنا من أهله تعلما وتعليما، حمد من عمته رحمته وإفضاله، وغمرته أعطيته ونواله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أستزيد بها وفور نعمه، وأسترفد بها وفور كرمه؛ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي جمع بمبعثه شمل الحق بعد تفرقه، وقمع برسالته حزب الباطل بعد تطوقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وأتباعهم الذين سلكوا سنن سننه وصوابه‏.‏

وبعد‏:‏ فكنت جمعت في عنفوان شبابي مختصرا في الفقه لبعض المبتدئين من أصحابي‏.‏ وسميته‏:‏ «بالمختار للفتوى»، اخترت فيه قول الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، إذ كان هو الأول والأولى؛ فلما تداولته أيدي العلماء، واشتغل به بعض الفقهاء طلبوا مني أن أشرحه شرحا أشير فيه إلى علل مسائله ومعانيها، وأبين صورها وأنبه على مبانيها، وأذكر فروعا يحتاج إليها ويعتمد في النقل عليها، وأنقل فيه ما بين أصحابنا من الخلاف، وأعلله متوخيا موجزا في الإنصاف، فاستخرت الله تعالى، وفوضت أمري إليه، وشرعت فيه، مستعينا به ومتوكلا عليه، وسميته‏:‏ «الاختيار لتعليل المختار»‏.‏

وزدت فيه من المسائل ما تعم به البلوى، ومن الروايات ما يحتاج إليه في الفتوى، يفتقر إليها المبتدي، ولا يستغني عنها المنتهي‏.‏ والله سبحانه وتعالى أسأله أن يوفقني للإتمام والإصابة، ويرزقني المغفرة والإنابة، إنه قدير على ذلك وجدير بالإجابة، وهو حسبي، ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير‏.‏

كتاب الطهارة

وهي في اللغة‏:‏ مطلق النظافة، وفي الشرع‏:‏ النظافة عن النجاسات؛ والوضوء في اللغة من الوضاءة‏:‏ وهي الحسن، وفي الشرع‏:‏ الغسل والمسح في أعضاء مخصوصة، وفيه المعنى اللغوي، لأنه يحسن به الأعضاء التي يقع فيها الغسل والمسح؛ فالغسل‏:‏ هو الإسالة‏.‏

والمسح‏:‏ الإصابة‏.‏ وسبب فرضية الوضوء إرادة الصلاة مع وجود الحدث، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ معناه إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون ‏(‏وفرضه‏:‏ غسل الوجه، وغسل اليدين مع المرفقين، ومسح ربع الرأس، وغسل الرجلين مع الكعبين‏)‏ لما تلونا، فالوجه‏:‏ ما يواجه به، وهو من قصاص الشعر إلى أسفل الذقن طولا، وما بين شحمتي الأذنين عرضا، وسقط غسل باطن العينين لما فيه من المشقة وخوف الضرر بهما، وبه تسقط الطهارة؛ ويجب غسل ما بين العذار والأذن لأنه من الوجه، خلافا لأبي يوسف بعد نبات اللحية لسقوط غسل ما تحت العذار وهو أقرب منه‏.‏ قلنا سقط ذلك للحائل ولا حائل هنا‏.‏ وقال زفر‏:‏ لا يدخل المرفقان والكعبان في الغسل لأن إلى للغاية‏.‏ قلنا‏:‏ وتستعمل بمعنى مع، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 2‏]‏ فتكون مجملة، وقد وردت السنة مفسرة لها‏.‏ فقد صح أنه صلى الله عليه «أدار الماء على مرافقه، ورأى رجلا توضأ ولم يوصل الماء إلى كعبيه فقال‏:‏ ويل للأعقاب من النار وأمره بغسلهما» وكذا الآية مجملة في مسح الرأس، تحتمل إرادة الجميع كما قال مالك، وتحمتل إرادة ما تناوله اسم المسح كما قاله الشافعي، وتحمتل إرادة بعضه كما ذهب إليه أصحابنا؛ وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته، فكان بيانا للآية وحجة عليهما، والمختار في مقدار الناصية ما ذكر في الكتاب وهو الربع، ولا يزيد على مرة واحدة، لأن بالتكرار يصير غسلا، والمأمور به المسح‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وسنن الوضوء‏:‏ غسل اليدين إلى الرسغين ثلاثا قبل إدخالهما في الإناء لمن استيقظ من نومه‏)‏ لحديث المستيقظ؛ ثم قيل إن كان الإناء صغيرا يرفعه بيده اليسرى ويصب على اليمنى، ثم باليمنى فيصب على اليسرى، لتقع البداءة باليمنى كما هو السنة؛ وإن كان الإناء كبيرا يدخل أصابع يده اليسرى مضمومة دون الكف، ويأخذ الماء فيغسل يديه لوقوع الكفاية بذلك، ولا يكتفي بدون ذلك في العادة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وتسمية الله تعالى في ابتدائه‏)‏ لمواظبته صلى الله عليه وسلم عليها‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من توضأ وذكر اسم الله تعالى كان طهورا لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهورا لما أصاب الماء» قال‏:‏ ‏(‏والسواك‏)‏ لأنه صلى الله عليه وسلم واظب عليه وقال‏:‏ «أوصاني خليلي جبريل بالسواك» قالوا‏:‏ والأصح أنه مستحب‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والمضمضة والاستنشاق ثلاثا ثلاثا‏)‏ يأخذ لكل مرة ماء جديدا لمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك كذلك‏.‏قال‏:‏ ‏(‏ومسح جميع الرأس والأذنين بماء واحد‏)‏ لما روي «أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح بجميع رأسه»‏.‏ وقد تقدم أنه مسح بناصيته، فيكون فرضا، ويكون مسح الجميع سنة‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الأذنان من الرأس»‏.‏ والمراد بيان الحكم دون الخلقة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وتخليل اللحية‏)‏ لما روي «أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ شبك أصابعه في لحيته كأنها أسنان المشط»‏.‏ وقيل هو سنة عند أبي يوسف جائز عندهما، لأن السنة إكمال الفرض في محله وباطن اللحية لم يبق محلا للفرض‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏و‏)‏ تخليل ‏(‏الأصابع‏)‏ لأنه إكمال الفرض في محله، ولقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «خللوا أصابعكم قبل أن تتخللها نار جهنم» قال‏:‏ ‏(‏وتثليث الغسل‏)‏ فالواحدة فرض، والثالثة سنة، والثانية دونها في الفضيلة؛ وقيل‏:‏ الثانية سنة، والثالثة إكمال السنة، وأصله الحديث المشهور أنه عليه الصلاة والسلام توضأ ثلاثا وقال‏:‏ «هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي» وما روي أن عثمان رضي الله عنه توضأ بالمقاعد فغسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا، ومسح برأسه مرة واحدة، وغسل رجليه ثلاثا وقال‏:‏ هكذا توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويستحب في الوضوء النية والترتيب‏)‏ ليقع قربة وليخرج عن عهدة الفرض بالإجماع، وكذا يستحب الموالاة، وهو أن لا يشتغل بين أفعال الوضوء بغيرها، وليس ذلك بفرض لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ الآية من غير اشتراطها، ولأنه ذكر بحرف الواو، وإنها للجمع بإجماع أئمة النحو واللغة نقلا عن السيرافي، والزيادة على النص نسخ، ولا يجوز نسخ الكتاب بالخبر لأنه راجح؛ وقيل‏:‏ إنهما سنتان وهو الأصح لمواظبته صلى الله عليه وسلم عليهما ‏(‏والتيامن‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إن الله يحب التيامن في كل شيء حتى التنعل والترجل»‏.‏ ‏(‏ومسح الرقبة‏)‏ قيل‏:‏ سنة، وقيل‏:‏ مستحب، ويكره أن يستعين في وضوئه بغيره إلا عند العجز ليكون أعظم لثوابه وأخلصلعبادته ويصلي بوضوء واحد ما شاء من الفرائض والنوافل، لأنه صلى الله عليه وسلم صلى يوم الخندق أربع صلوات بوضوء واحد‏.‏

فصل ‏[‏ما ينقض الوضوء‏]‏

‏(‏وينقضه كل ما خرج من السبيلين ومن غير السبيلين إن كان نجسا وسال عن رأس الجرح‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو جاء أحد منكم من الغائط‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏ والغائط حقيقة المكان المطمئن، وليست حقيقته مرادة فيجعل مجازا عن الأمر المحوج إلى المكان المطمئن، وهذه الأشياء تحوج إليه لتفعل فيه تسترا عن الناس على ما عليه العادة، حتى لو جاء من المكان المطمئن من غير حاجة لا يجب عليه الوضوء إجماعا، وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الوضوء من كل دم سائل»‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ»‏.‏ الحديث، وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «يعاد الوضوء من سبع»‏.‏ وعد منها القيء ملء الفم، والدم السائل، والقهقهة، والنوم‏.‏ ويشترط السيلان في الخارج من غير السبيلين، لأن تحت كل جلدة دما ورطوبة، فما لم يسل يكون باديا لا خارجا بخلاف السبيلين، لأنه متى ظهر يكون متنقلا فيكون خارجا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والقيء ملء الفم‏)‏ لما تقدم وهو ما لا يمكنه إمساكه إلا بمشقة، وإن قاء قليلا قليلا، ولو جمع كان ملء الفم، فأبو يوسف اعتبر اتحاد المجلس، لأنه جامع للمتفرقات على ما عرف في سجدة التلاوة وغيرها، ومحمد اعتبر اتحاد السبب وهو الغثيان لأنه دليل على اتحاده، وعند زفر ينقض القليل أيضا كالخارج من السبيلين وقد مر جوابه؛ ولا ينقض إذا قاء بلغما وإن ملأ الفم، وقال أبو يوسف‏:‏ إن كان من الجوف نقض لأنه محل النجاسة فأشبه الصفراء، قلنا البلغم طاهر، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذه بطرف ردائه وهو في الصلاة، ولهذا لا ينقض النازل من الرأس بالإجماع، وهو للزوجته لا تتداخله النجاسة، وبقي ما يجاوره من النجاسة وهو قليل، والقليل غير ناقض بخلاف الصفراء فإنها تمازجها ‏(‏وإن قاء دما أو قيحا نقض وإن لم يملأ الفم‏)‏ وقال محمد‏:‏ لا ينقض ما لم يملأ الفم كغيره من الأخلاط‏.‏ قلنا المعدة ليست محلا للدم، والقيح إنما يسيل إليها من قرحة أو جرح، فإذا خرج فقد سال من موضعه فينقض حتى لو قاء علقا لا ينقض ما لم يملأ الفم، لأنه يكون في المعدة، هكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنه ‏(‏وإذا اختلط الدم بالبصاق إن غلبه نقض‏)‏ حكما للغالب، وكذا إذا تساويا احتياطا وإن غلب البصاق لا، لأن القليل مستهلك في الكثير فيصير عدما‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وينقضه النوم مضطجعا‏)‏ لما روينا، ‏(‏وكذلك المتكئ والمستند‏)‏ لأنه مثله في المعنى‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «العين وكاء السه، فإذا نامت العين انحل الوكاء» قال‏:‏ ‏(‏والإغماء والجنون‏)‏ لأنهما أبلغ في إزالة المسكة من النوم، لأن النائم يستيقظ بالانتباه، والمجنون والمغمى عليه لا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والنوم قائما وراكعا وساجدا وقاعدا‏)‏ لا ينقض لقوله صلى الله عليه «لا وضوء على من نام قائما أو راكعا أو ساجدا أو قاعدا، إنما الوضوء على من نام مضطجعا» قال‏:‏ ‏(‏ومس المرأة لا ينقض الوضوء‏)‏ لرواية عائشة رضي الله عنها»‏.‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قبّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ»‏.‏ والآية متعارضة التأويل، فإن ابن عباس رضي الله عنه قال‏:‏ المراد باللمس الجماع، وقد تأكد بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏وكذا مس الذكر‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام لطلق بن علي حين سأله‏:‏ هل في مس الذكر وضوء‏؟‏ قال‏:‏ «لا، هل هو إلا بضعة منك»‏.‏ ‏؟‏ نفى الوضوء، ونبه على العلة وما روي «من مس ذكره فليتوضأ»‏.‏ طعن فيه يحيى بن معين وغيره من أئمة الحديث‏.‏ قال ‏(‏والقهقهة في الصلاة تنقض‏)‏ لما روينا، ولقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ألا من ضحك منكم قهقهة فليعد الوضوء والصلاة جميعا»‏.‏ وأنه ورد في صلاة كاملة فيقتصر عليها لوروده على خلاف القياس حتى لو ضحك في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة لا ينقض الوضوء والقهقهة أن يسمعها جاره، وحكمها انتقاض الوضوء والصلاة جميعا، والضحك أن يسمعها هو لا غير، قالوا‏:‏ وتبطل الصلاة لا غير؛ والتبسم ما لا يسمعه هو ولا غيره ولا حكم له، وإن شك في نقض وضوئه، فإن كان أول شكه أعاده لأنه تيقن بالحدث وشك في زواله، وإن كان يحدث له كثيرا لم يعد دفعا للحرج، ومن أيقن بالحدث وشك في الطهارة أو بالعكس أخذ باليقين‏.‏

فصل ‏[‏فروض الغسل‏]‏

‏(‏فرض الغسل‏:‏ المضمضة، والاستنشاق، وغسل جميع البدن‏)‏ والفرق بينه وبين الوضوء أنه مأمور بغسل الوجه في الوضوء، والمواجهة لا تقع بباطن الأنف والفم، وفي الغسل مأمور بتطهير جميع البدن‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كنتم جنبا فاطهروا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ فيجب غسل جميع ما يمكن غسله من البدن إلا باطن العين على ما مر بخلاف باطن الأنف والفم حيث يمكن غسلهما، ولا ضرر فيه، فيجب وقد تأكد ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إن تحت كل شعرة جنابة ألا فبلوا الشعر وأنقوا البشرة»‏.‏ ، ويجب إيصال الماء إلى أصول الشعر وأثنائه في اللحية والرأس لما تقدم إلا إذا كان ضفيرة في رواية للحرج‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وسننه أن يغسل يديه وفرجه، ويزيل النجاسة عن بدنه، ثم يتوضأ للصلاة، ثم يفيض الماء على جميع بدنه ثلاثا‏)‏ هكذا حكي غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت ميمونة‏:‏ «وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلا فاغتسل من الجنابة فأكفأ الإناء بشماله على يمينه فغسل كفيه، ثم أفاض الماء على فرجه فغسله، ثم مال بيده على الحائط أو على الأرض فدلكها، ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه، وأفاض الماء على رأسه، ثم أفاض على سائر جسده، ثم تنحى فغسل رجليه» ويستحب تأخير غسل رجليه إن كانتا في مستنقع الماء لما روينا وتحرزا عن الماء المستعمل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويوجبه غيبوبة الحشفة في قبل أو دبر على الفاعل والمفعول به‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة وجب الغسل أنزل أو لم ينزل، قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا»‏.‏ ، وكذا في الدبر لأنه محل مشتهى مقصود بالوطء كالقبل، ولقول علي رضي الله عنه‏:‏ توجبون فيه الحد ولا توجبون فيه صاعا من ماء‏؟‏‏.‏ وفي الزيادات يجب على المفعول به احتياطا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإنزال المني على وجه الدفق والشهوة‏)‏ لأنه يوجب الجنابة إجماعا، فيجب الغسل بالنص‏.‏ وسألت أم سليم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها أن زوجها يجامعها، قال‏:‏ «عليها الغسل إذا وجدت الماء»‏.‏ ولو خرج لا على وجه الدفق والشهوة، كما إذا ضرب على ظهره أو سقط من علو أو أصابه مرض يجب الوضوء دون الغسل كما في المذي فإنه من أجزاء المني، لكن لما لم يخرج على وجه الدفق لم يجب الغسل، ثم الشرط انفصاله عن موضعه عن شهوة لأن بذلك يعرف كونه منيا وهو الشرط، وعند أبي يوسف خروجه عن العضو، لأن حكمه إنما يثبت بعد الخروج فيعتبر وقتئذ‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وانقطاع الحيض والنفاس‏)‏ أما الحيض فلقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يطهرن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏ بالتشديد، منع من قربانهن حتى يغتسلن، ولولا وجوبه لما منع‏.‏ وأما النفاس فبالإجماع، وكذا يجب على المستحاضة إذا كملت أيام حيضها لأنها في أحكام الحيض كالطاهرات‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومن استيقظ فوجد في ثيابه منيا أو مذيا فعليه الغسل‏)‏ أما المني فلقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من ذكر حلما ولم ير بللا فلا غسل عليه، ومن رأى بللا ولم يذكر حلما فعليه الغسل» وأما المذي ففيه خلاف أبي يوسف، لأن المذي لا يوجب الغسل كما في حالة اليقظة‏.‏ ولنا أن الظاهر أنه مني قد رق فيجب الغسل احتياطا، والمرأة إذا احتلمت ولم تر بللا إن استيقظت وهي على قفاها يجب الغسل لاحتمال خروجه ثم عوده، لأن الظاهر في الاحتلام الخروج، بخلاف الرجل فإنه لا يعود لضيق المحل، وإن استيقظت وهي على جهة أخرى لا يجب‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وغسل الجمعة والعيدين والإحرام سنة‏)‏‏.‏

وقيل مستحب فإنه يوم ازدحام، فيستحب لئلا يتأذى البعض برائحة البعض، وأدنى ما يكفي من الماء في الغسل صاع وفي الوضوء مد، والصاع ثمانية أرطال، والمد رطلان، لما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد» ثم اختلفوا هل المد من الصاع أم من غيره‏؟‏ وهذا ليس بتقدير لازم حتى لو أسبغ الوضوء والغسل بدون ذلك جاز، ولو اغتسل بأكثر منه جاز ما لم يسرف فهو المكروه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يجوز للمحدث والجنب مس المصحف إلا بغلافه‏)‏ غير المشرز لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يمسه إلا المطهرون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 79‏]‏ ولا بأس أن يمسه بكمه، وكرهه بعضهم ‏(‏ولا يجوز للجنب قراءة القرآن‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئا من القرآن»‏.‏ ، وعن الطحاوي أنه يجوز له بعض آية، والحديث لا يفصل، ولا بأس بأن يقرأ شيئا منه لا يريد به القرآن كالبسملة والحمدلة ‏(‏ويجوز له الذكر والتسبيح والدعاء‏)‏ لأن المنع ورد عن القرآن خاصة ‏(‏ولا يدخل المسجد إلا لضرورة‏)‏ لقوله صلى الله عليه «لا أحل المسجد لجنب ولا حائض»‏.‏ فإن احتاج إلى ذلك تيمم ودخل، لأنه طهارة عند عدم الماء، وإن نام في المسجد فأجنب، قيل لا يباح له الخروج حتى يتيمم، وقيل يباح ‏(‏والحائض والنفساء كالجنب‏)‏ في جميع ذلك‏.‏

فصل ‏[‏ما تجوز به الطهارة‏]‏

‏(‏تجوز الطهارة بالماء الطاهر في نفسه المطهر لغيره، كالمطر وماء العيون والآبار وإن تغير بطول المكث‏)‏ والأصل فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزلنا من السماء ماء طهورا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 48‏]‏‏.‏ وتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من آبار المدينة وقال‏:‏ «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غيّر طعمه أو لونه أو ريحه»‏.‏ وطول المكث لا ينجسه فيبقى طاهرا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز بماء خالطه شيء طاهر فغير أحد أوصافه‏)‏ ولم يزل رقته ‏(‏كالزعفران والأشنان وماء المد‏)‏ وفي اللبن روايتان ‏(‏ولا تجوز بماء غلب عليه غيره فأزال عنه طبع الماء كالأشربة والخل وماء الورد‏)‏ وطبع الماء كونه سيالا مرطبا مسكنا للعطش ‏(‏وتعتبر الغلبة بالأجزاء‏)‏ والأصل فيه أن الماء الذي خالطه شيء من الطين يجوز الوضوء به إجماعا لبقاء اسم الماء المطلق، ولا يجوز بالخل إجماعا لزوال الاسم عنه، فكل ما غلب على الماء وأخرجه عن طبعه ألحقناه بالخل، وما غلب عليه الماء وطبعه باق ألحقناه بالأول، لأنه على حكم الإطلاق، وإضافته إليه كإضافته إلى العين والبئر، وإن تغير بالطبخ لا يجوز كالمرق إلا ما يقصد به التنظيف كالسدر والحرض والصابون ما لم يثخن، فإنه يجوز لورود السنة بغسل الميت بذلك ‏(‏و‏)‏ أما ‏(‏الماء الراكد إذا وقعت فيه نجاسة لا يجوز الوضوء به‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه أو يشرب»‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏إلا أن يكون عشرة أذرع في عشرة‏)‏ أذرع؛ والأصل أن الماء القليل ينجس بوقوع النجاسة فيه والكثير لا، لقوله عليه الصلاة والسلام في البحر‏:‏ «هو الطهور ماؤه»‏.‏ واعتبرناه فوجدناه ما لا يخلص بعضه إلى بعض، فنقول‏:‏ كل ما لا يخلص بعضه إلى بعض لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، وهذا معنى قولهم لا يتحرك أحد طرفيه بتحرك الطرف الآخر، وامتحن المشايخ الخلوص بالمساحة فوجدوه عشرا في عشر فقدروه بذلك تيسيرا‏.‏ وقال أبو مطيع البلخي‏:‏ إذا كان خمسة عشر في خمسة عشر لا يخلص، أما عشرين في عشرين لا أرى في نفسي شيئا؛ وإن كان له طول ولا عرض له، فالأصح أنه إن كان بحال لو ضم طوله إلى عرضه يصير عشرا في عشر فهو كثير؛ والمختار في العمق ما لا ينحسر أسفله بالغرف، ثم إن كانت النجاسة مرئية لا يتوضأ من موضع الوقوع للتيقن بالنجاسة برؤية عينها وإن كانت غير مرئية، فلو توضأ منه جاز لعدم التيقن بالنجاسة لاحتمال انتقالها؛ ومنهم من قال‏:‏ لا يجوز أيضا، لأن الظاهر بقاؤها في الحال‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والماء الجاري إذا وقعت فيه نجاسة ولم ير لها أثر جاز الوضوء منه‏)‏ من أي موضع شاء ‏(‏والأثر طعم أو لون أو ريح‏)‏ لأنها لا تبقى مع الجريان، والجاري‏:‏ ما يعده الناس جاريا هو الأصح، ولو وقعت جيفة في نهر كبير لا يتوضأ من أسفل الجانب الذي فيه الجيفة ويتوضأ من أسفل الجانب الآخر؛ وإن كان النهر صغيرا إن كان يجري أكثر الماء عليها لا يجوز، وإن كان أقله يجوز، وإن كان نصفه يجوز، والأحوط الترك‏.‏ وعن محمد في ماء المطر إذا مرّ بالنجاسة ولا يوجد أثرها يتوضأ منه‏.‏ لأنه كالجاري‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وما كان مائي المولد من الحيوان موته في الماء لا يفسده‏)‏ كالسمك والضفدع والسرطان لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «هو الطهور ماؤه الحل ميتته»‏.‏ فاستفدنا به عدم تنجسه بالموت وإذا لم يكن نجسا لا ينجس ما يجاوره، ولأنه لا دم في هذه الأشياء وهو المنجس، إذ الدموي لا يتوالد في الماء، وكذا لو مات خارج الماء ثم وقع فيه لما بينا، ولو مات في غير الماء كالخل واللبن روي عن محمد أنه لا يفسده، وسواء فيه المنتفخ وغيره، وعنه أنه سوّى بين الضفدع البري والمائي؛ وقيل إن كان للبري دم سائل أفسده، وهو الصحيح‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وكذا ما ليس له نفس سائلة كالذباب والبعوض والبق‏)‏ إذا مات في المائع لا يفسده، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إذا وقع الذباب في طعام أحدكم فامقلوه ثم انقلوه»‏.‏ الحديث، وأنه يموت بالمقل في الطعام سيما الحار منه، ولو كان موته ينجس الطعام لما أمر به‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وما عداهما يفسد الماء القليل‏)‏ لأنه دموي ينجس بالموت فينجس ما يجاوره كالآدمي الميت إذا وقع في الماء ينجسه، لأنه تنجس بالموت‏.‏ وإن وقع بعد الغسل فكذلك إن كان كافرا، وإن كان مسلما لا ينجسه، لأنه لما حكم بجواز الصلاة على المسلم حكم بطهارته ولا كذلك الكافر فافترقا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والماء المستعمل لا يطهر الأحداث؛ وهو ما أزيل به حدث، أو استعمل في البدن على وجه القربة‏)‏ كالوضوء على الوضوء بنية العبادة ‏(‏ويصير مستعملا إذا انفصل عن العضو‏)‏‏.‏ وروى النسفي أنه لا يصير مستعملا حتى يستقر في مكان، والأول المختار‏.‏ وقال محمد‏:‏ لا يصير مستعملا إلا بإقامة القربة لا غير، وإنما يقع قربة بالنية، وتظهر ثمرته في الجنب المنغمس في البئر لطلب الدلو فعندهما طاهران، لأن النية عنده شرط في صيرورة الماء مستعملا، وليست بشرط في إزالة الجنابة؛ وعند أبي يوسف الرجل بحاله لعدم الصب، والماء بحاله لعدم إزالة الحدث؛ وعند أبي حنيفة هما نجسان‏:‏ الماء لإزالته الجنابة عن البعض، والرجل لبقاء الحدث في باقي الأعضاء‏.‏ وقيل يطهر من الجنابة ثم يتنجس بنجاسة الماء المستعمل حتى يجوز له قراءة القرآن ونحوه‏.‏ وقيل هو طاهر لأن الماء لا يصير مستعملا إلا بعد الانفصال، وعلى هذا لو توضأ محدث للتبرد يصير الماء مستعملا خلافا لمحمد؛ ثم الماء المستعمل طاهر غير طهور عند محمد، وهو روايته عن أبي حنيفة، وهو اختيار أكثر المشايخ، لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتبادرون إلى وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمسحون به وجوههم ولم يمنعهم، ولو كان نجسا لمنعهم كما منع الحجام من شرب دمه‏.‏

وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه نجس نجاسة مغلظة لأنه أزال النجاسة الحكمية فصار كما إذا أزال الحقيقة، بل أولى لأن النجاسة الحكمية أغلط حتى لا يعفى عن القليل منها؛ وعند أبي يوسف وهي روايته عن أبي حنيفة أن نجاسته خفيفة لمكان الاختلاف‏.‏ وقال زفر‏:‏ إن كان المستعمل محدثا فهو كما قال محمد، وإن كان طاهرا فهو طهور، لأنه لم يزل النجاسة فلم يتغير وصفه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وكل إهاب دبغ فقد طهر‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أيما إهاب دبغ فقد طهر» قال‏:‏ ‏(‏إلا جلد الآدمي لكرامته‏)‏ فيحرم الانتفاع بشيء من أجزائه لما فيه من الإهانة ‏(‏و‏)‏ إلا جلد ‏(‏الخنزير لنجاسة عينه‏)‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فإنه رجس‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏ وهو أقرب المذكورات فيصرف إليهم؛ والفيل كالخنزير عند محمد، وعندهما ينتفع به ويطهر بالذكاة؛ وعند محمد‏:‏ إذا أصلح مصارين ميتة أو دبغ المثانة طهرت حتى يتخذ منها الأوتار، وما ظهر بالدباغ يطهر بالذكاة، لأنها تزيل الرطوبات كالدباغ، والدباغ أن يخرجه من حد الفساد سواء كان بالتراب أو بالشمس أو غيرهما‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وشعر الميتة وعظمها طاهر‏)‏ لأن الحياة لا تحلهما حتى لا تتألم بقطعهما فلا يحلهما الموت وهو المنجس، وكذلك العصب والحافر والخف والظلف والقرن والصوف والوبر والريش والسن والمنقار والمخلب لما ذكرنا، ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 80‏]‏ امتن بها علينا من غير فصل ‏(‏وشعر الإنسان وعظمه طاهر‏)‏ وهو الصحيح، إلا أنه لا يجوز الانتفاع به لما بيّنا؛ أما الخنزير فجميع أجزائه نجسة لما مر عن محمد أن شعره طاهر حتى يحل الانتفاع به، وجوابه أنه رخص للخرازين للحاجة ضرورة‏.‏

فصل ‏[‏كيفية تطهير البئر من النجاسة‏]‏

‏(‏إذا وقعت في البئر نجاسة فأخرجت ثم نزحت طهرت‏)‏ والقياس أنه لا تطهر، لأنه إذا تنجس الماء تنجس الطين، فإذا نزح الماء بقي الطين نجسا، فكلما نبع الماء نجسه لكنا خالفنا القياس بإجماع السلف، وما روي عنهم من الآثار غير معقول المعنى، فالظاهر أنهم قالوه سماعا ‏(‏وإذا وقع في آبار الفلوات من البعر والروث والأخثاء لا ينجسها ما لم يستكثره الناظر‏)‏ لأن آبار الفلوات بغير حواجز، والدواب تبعر حولها والرياح تلقيها فيها، فكان في القليل ضرورة دون الكثير‏.‏

وحده أن يأخذ ربع وجه الماء عن محمد، وقيل ثلثه، وقيل أن لا يخلو دلو من شيء منه؛ والمختار ما ذكره في الكتاب وهو أن يستكثره الناظر، وهو المروي عن صاحب المذهب رضي الله عنه، والرطب واليابس والصحيح والمنكسر سواء لعموم البلوى وآبار الأمصار كذلك؛ وقيل يعتبر ما ذكرنا من الضرورة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وخرء الحمام والعصفور لا يفسدها‏)‏ لأنه ليس بنجس على ما سيأتي إن شاء الله تعالى قال‏:‏ ‏(‏وإذا مات في البئر فأرة أو عصفورة أو نحوهما نزح منها عشرون دلوا إلى الثلاثين‏)‏ لما روي عن علي رضي الله عنه أنه ينزح منها دلاء، وعن أنس عشرون دلوا، وعن النخعي عشرون أو ثلاثون، فالعشرون للإيجاب والثلاثون للاستحباب؛ وعن محمد في الفأرتين عشرون، وفي الثلاث أربعون؛ وعن أبي يوسف في الفأرة عشرون إلى أربع، وفي الخمس أربعون إلى تسع، وفي العشر جميع الماء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وفي الحمامة والدجاجة ونحوهما من أربعين إلى ستين‏)‏ هكذا روي عن أبي سعيد الخدري، ولأنها ضعف الفأرة فضعفنا الواجب ‏(‏وفي الآدمي والشاة والكلب جميع الماء‏)‏ هكذا حكم ابن عباس وابن الزبير في بئر زمزم حين مات فيها الزنجي، ولأنه لثقله ينزل إلى قعر البئر فيلاقي جميع الماء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإن انتفخ الحيوان أو تفسخ نزح جميع الماء‏)‏ لأنه لا يخلو عن بلة نجسة فتشيع، فصار كما إذا وقعت ابتداء؛ ولو وقع الحيوان في البئر ثم أخرج حيا فإن كان طاهرا كالآدمي وما يؤكل لحمه، فإن لم يكن على بدنه نجاسة لم ينزح شيء، وإن كان على مخرجه نجاسة نزح الجميع، وكذلك سباع الطير والوحش وهو الصحيح، وكذلك البغل والحمار لا يصير الماء مشكوكا فيه، لأن بدن هذه الحيوانات طاهر، وإن وصل الماء إلى لعابه أخذ حكمه‏.‏ وذكر القدوري‏:‏ إن كان الرجل محدثا نزح أربعون دلوا، وإن كان جنبا فالجميع‏.‏ وقال محمد‏:‏ إن نوى الغسل أو الوضوء يصير مستعملا فيفسد وإلا فلا‏.‏

وعن أبي حنيفة رضي الله عنه في الكافر ينزح جميع الماء فإنه لا يخلو بدنه من النجاسة غالبا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويعتبر في كل بئر دلوها‏)‏ لأن السلف أطلقوا فينصرف إلى المعتاد كما في النقود؛ وعن أبي حنيفة أنه قدره بالصاع ‏(‏وإذا لم يكن إخراج جميع الماء نزح منها مائتا دلو إلى ثلاثمائة‏)‏ لأن غالب ماء الآبار لا يزيد على ذلك، وهذا أيسر على الناس، وهو المروي عن محمد‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ ينزح حتى يغلبهم الماء ولم يقدر فيه شيئا، فيعمل بغلبة الظن، فيرجع إلى قول رجلين لهما معرفة بذلك‏.‏ وإذا نزح ما وجب نزحه وحكم بطهارة البئر طهر الدلو والرشا والبكرة ونواحيها ويد المستقي، مروي ذلك عن أبي يوسف رحمه الله‏.‏

فصل ‏[‏طهارة سؤر الآدمي والفرس وما يؤكل لحمه‏]‏

‏(‏سؤر الآدمي والفرس وما يؤكل لحمه طاهر‏)‏ الأسآر أربعة‏:‏ طاهر غير مكروه، وهو سؤر الآدمي جنبا كان أو حائضا أو مشركا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرب وأعطى فضل سؤره أعرابيا عن يمينه فشرب، ثم شرب أبو بكر سؤر الأعرابي؛ وأراد صلى الله عليه وسلم أن يصافح أبا هريرة فقال‏:‏ إني جنب، فقال صلى الله عليه وسلم «المؤمن لا ينجس»‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها‏:‏ «ناوليني الخمرة»‏.‏ قالت‏:‏ إني حائض، قال‏:‏ «ليست حيضتك في يدك»‏.‏ إشارة إلى أن النجس موضع الحيض، ولأن بدن الإنسان طاهر مسلما كان أو كافرا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل وفد ثقيف في المسجد، ولو كانت أبدانهم نجسة لم ينزلهم فيه تنزيها له وكذا سؤر ما يؤكل لحمه لأنه متولد من لحمه فيكون طاهرا كاللبن إلا الدجاجة المخلاة والإبل والبقر الجلالة فإنه مكروه لاحتمال بقاء النجاسة على منقارها وفمها، وكذا سؤر الفرس، لأن كراهة لحمه عند أبي حنيفة لاحترامه لا لنجاسته، وعنه أنه مكروه كلحمه‏.‏ ‏(‏والثاني‏)‏ طاهر ‏(‏مكروه، وهو سؤر الهرة والدجاجة المخلاة وسواكن البيت‏)‏ كالحية والعقرب والفأرة، لأن نجاسة لحمها توجب نجاسته، إلا أنه لما لم يكن الاحتراز عنه لكونها من الطوافات علينا كما أشار إليه النص فقلنا بالطهارة مع الكراهة، ‏(‏و‏)‏ كذا سؤر ‏(‏سباع الطير‏)‏ لأن الأصل طهارة المنقار إلا أنها تأكل الميتات فقلنا بالكراهة، والماء المكروه إذا توضأ به مع وجود الماء المطلق كان مكروها، وعند عدمه لا يكون مكروها‏.‏

‏(‏والثالث نجس، وهو سؤر الخنزير والكلب وسباع البهائم‏)‏ أما الخنزير فلأنه نجس العين ولعابه يتولد من لحمه‏.‏ وأما الكلب فلأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بغسل الإناء من ولوغه ثلاثا، وفي رواية سبعا، ولسانه يلاقي الماء دون الإناء فكان أولى بالنجاسة‏.‏ وأما سباع البهائم فلأن فيه لعابها، وأنه نجس لتولده من لحم نجس كاللبن بخلاف العرق فإن فيه ضرورة لعموم البلوى‏.‏ ‏(‏والرابع مشكوك فيه وهو سؤر البغل والحمار‏)‏ لتعارض الأدلة، فإن حرمة اللحم واللبن دليل النجاسة، وطهارة العرق دليل الطهارة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركب الحمار معروريا في حر الحجاز ويصيب العرق ثوبه، وكان يصلي في ذلك الثوب‏.‏ ومعنى الشك التوقف فيه فلا ينجس الطاهر ولا يطهر النجس ‏(‏وعند عدم الماء يتوضأ به ويتيمم‏)‏ احتياطا للخروج عن العهدة، وأيهما قدّم جاز، لأن المطهر منهما غير متيقن فلا فائدة في الترتيب‏.‏ وقال زفر‏:‏ يبدأ بالوضوء ليصير عادما للماء حقيقة‏.‏ وجوابه إن كان طهورا فالتيمم ضائع قبله أو بعده، وإن كان غير طهور فالتيمم معتبر سواء كان قبله أو بعده، ولا معنى لاشتراط الترتيب، ثم قيل الشك في طهارته لتعارض الأدلة؛ وعن محمد الشك في طهوريته لأنا لا نأمره بغسل الأعضاء إذا توضأ به بعدما وجد الماء، وعرق كل دابة مثل سؤرها‏.‏

باب التيمم

وهو في اللغة مطلق القصد، قال الشاعر‏:‏ ولا أدري إذا يممت أرضا أريد الخير أيهما يليني وفي الشرع قصد الصعيد الطاهر واستعماله بصفة مخصوصة لإقامة القربة، وسبب وجوبه ما هو سبب وجوب الوضوء، وشرط جوازه العجز عن استعمال الماء لأنه خلف الوضوء، فلا يشرع معه، والأصل في جواز التيمم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏‏.‏ وقوله صلى الله عليه «التيمم كافيك ولو إلى عشر حجج ما لم تجد الماء» قال‏:‏ ‏(‏من لم يقدر على استعمال الماء لبعده ميلا أو لمرض أو برد أو خوف عدو أو عطش أو عدم آلة‏)‏ يستقي بها ‏(‏يتيمم بها كان من أجزاء الأرض كالتراب والرمل والجص والكحل‏)‏ أما بعد الماء فلقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلم تجدوا ماء فتيمموا‏}‏، وأما التقدير بالميل فلما يلحقه من الحرج بذهابه إليه وإيابه، والميل‏:‏ ثلث فرسخ، وأما المرض فللآية؛ وسواء خاف ازدياد المرض أو طوله، أو خاف من برد الماء أو من التحريك للاستعمال، لأن الآية لا تفصل؛ وكذلك الصحيح إذا خاف المرض من استعمال الماء البارد لما فيه من الحرج، ويستوي فيه المصر وخارجه، وقالا‏:‏ لا يجوز التيمم في مصر، لأن الغالب قدرته على الماء المسخن‏.‏

قلنا لا نسلم ذلك في حق الغريب الفقير، على أن الكلام عند عدم القدرة فيكون عاجزا فيتيمم بالنص؛ وكذلك لو حال بينه وبين الماء عدو أو سبع لأنه عادم حقيقة، وكذلك إن كان معه ماء ويخاف العطش لو استعمله فإنه يتيمم، لأنه عادم حكما، إما لخوف الهلاك، أو لأنه مشغول بالأهم فصار عادما، وكذلك إذا كان على بئر وليس معه ما يستقي به لأنه عادم أيضا حكما، ويتيمم بما كان من أجزاء الأرض لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏صعيدا طيبا ‏(‏‏.‏ والصعيد‏:‏ ما يصعد على وجه الأرض لغة، والطيب‏:‏ الطاهر، وحمله على ذلك أولى من حمله على المنبت، لأن المراد من الآية التطهير لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن يريد ليطهركم ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ فكان إرادة التطهير أليق، وهو حجة على أبي يوسف في التخصيص بالتراب والرمل، وعلى الشافعي في التخصيص بالتراب لا غير بناء على أن المراد بالطيب المنبت، ولأن الطيب اسم مشترك بين الطاهر والمنبت والحلال‏.‏ وإرادة ما ذكرنا أولى لما بيّنا، ثم كل ما لا يلين ولا ينطبع بالنار فهو من جنس الأرض، وكل ما يلين وينطبع أو يحترق فيصير رمادا ليس من جنس الأرض، لأن من طبع الأرض أن لا تلين بالنار‏.‏ ‏(‏ولا بد فيه من الطهارة‏)‏ لما قدمنا ‏(‏و‏)‏ لا بد من ‏(‏النية‏)‏ وهي أن ينوي رفع الحدث أو استباحة الصلاة‏.‏ وقال زفر‏:‏ لا تشترط النية كالوضوء‏.‏ ولنا أنه مأمور بالتيمم وهو القصد؛ والقصد‏:‏ النية فلا بد منها، بخلاف الوضوء فإنه مأمور بغسل الأعضاء وقد وجد ثم التراب ملوّث ومغبر، وإنما يصير مطهرا ضرورة إرادة الصلاة وذلك بالنية بخلاف الوضوء، لأن الماء مطهر في نفسه فاستغنى في وقوعه طهارة عن النية، لكن يحتاج إليها في وقوعه عبادة وقربة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويستوي فيه المحدث والجنب‏)‏ للآية‏.‏ ولقوله عليه الصلاة والسلام لعمار بن ياسر حين أجنب فتمعك بالتراب‏:‏ «يكفيك ضربتان‏:‏ ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين» ‏(‏والحائض‏)‏ والنفساء كالجنب ‏(‏وصفة التيمم أن يضرب بيديه على الصعيد فينفضهما ثم يمسح بهما وجهه، ثم يضربهما كذلك ويمسح بكل كف ظهر ذراع الأخرى وباطنها مع المرفق‏)‏ لحديث عمار، ولقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «التيمم ضربتان‏:‏ ضربة للوجه، وضربة للذراعين إلى المرفقين» ‏(‏والاستيعاب شرط‏)‏ حتى يخلل أصابعه ذكره محمد في الأصل، وهو ظاهر الرواية اعتبارا بالوضوء‏.‏

وروى الحسن في المجرد عن أبي حنيفة إذا يمم الأكثر جاز لما فيه من الحرج والأول أصح ‏(‏ويجوز قبل الوقت‏)‏ تمكينا له من الأداء في أول الوقت، وكما في الوضوء لأنه خلفه، ‏(‏ويجوز‏.‏ قبل طلب الماء‏)‏ لأنه عادم حقيقة، والظاهر العدم في المفاوز إلا إذا غلب على ظنه أن بقربه ماء فلا يجوز ما لم يطلب لأنه واجد نظرا إلى الدليل، والدليل إخبار أو علامة يستدل بها على الماء ويطلبه مقدار غلوة، وهي مقدار رمية سهم ولا يبلغ ميلا، وقيل مقدار ما لا ينقطع عن رفقائه‏.‏ ‏(‏ولو صلى بالتيمم ثم وجد الماء لم يعد‏)‏ لأنه أتى بما أمر به وهو الصلاة بالتيمم فخرج عن العهدة ‏(‏وإن وجده في خلال الصلاة توضأ واستقبل‏)‏ لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالخلف، ولأن التيمم ينتقض برؤية الماء فانتقضت طهارته فيتوضأ ويستقبل ‏(‏ويصلي بالتيمم الواحد ما شاء من الصلوات كالوضوء‏)‏ فرضا ونفلا لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء أو يحدث» ولأن طهارته ضرورة عدم الماء وهي قائمة ‏(‏ويستحب تأخير الصلاة لمن طمع في‏)‏ وجود ‏(‏الماء‏)‏ ليؤديها بأكمل الطهارتين ‏(‏وتجوز الصلاة على الجنازة بالتيمم إذا خاف فوتها لو توضأ‏)‏ لأنها لا تعاد على ما يأتيك إن شاء الله تعالى فتفوت ‏(‏وكذلك صلاة العيد‏)‏ لأنها لا تعاد ولا تقضى وهو مخاطب بها، ولا يمكنه أداؤها بالوضوء فيتيمم كالمريض‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يجوز للجمعة وإن خاف الفوت‏)‏ لأنها تفوت إلى خلف وهو الظهر، لأن الظهر فرض الوقت على ما نبينه إن شاء الله تعالى ‏(‏ولا‏)‏ يجوز ‏(‏للفرض إذا خاف فوت الوقت‏)‏ لأنها تفوت إلى خلف وهو القضاء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وينقضه نواقض الوضوء‏)‏ لأنه خلف عنه، وما ينقض الأصل أولى أن ينقض الخلف لأن الأصل أقوى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏و‏)‏ ينقضه ‏(‏القدرة على الماء واستعماله‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ما لم تجد الماء»‏.‏

والماء موضوع في الحب وغيره بالفلاة لا ينقضه لأنه موضوع للشرب‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو صلى المسافر بالتيمم ونسي الماء في رحله لم يعد‏)‏ وقال أبو يوسف‏:‏ يعيد لأنه تيمم قبل الطلب مع الدليل، فإن الرحل لا يخلو عن الماء عادة، وصار كما إذا صلى عريانا ونسي الثوب، أو كفر بالصوم ونسي المال‏.‏

ولهما أنه عاجز عن استعمال الماء لأنه لا قدرة عليه مع النسيان، وعجزه بأمر سماوي وهو النسيان‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام للذي أفطر ناسيا‏:‏ «إنما أطعمك ربك وسقاك»‏.‏ بخلاف المحبوس، لأن العجز من جهة العباد فلا يؤثر في إسقاط حق الشرع فلا يجوز له التيمم‏.‏ وأما مسألة الثوب فممنوعة على الصحيح، ولئن سلمت فالفرق أن الوضوء فات إلى خلف وستر العورة فات لا إلى خلف‏.‏ وأما مسألة الكفارة فالفرق أن شرط جواز الصوم عدم كون المال في ملكه ولم يوجد، وشرط جواز التيمم العجز عن استعمال الماء وقد وجد، والرحل عادة لا يخلو عن ماء الشرب، أما ماء الوضوء فالغالب العدم فيه، ولو ظنّ أن ماءه قد فني ولم يتقين لم يجز تيممه، لأن اليقين لا يزول بالظن‏.‏ ‏(‏ويطلب الماء من رفيقه‏)‏ لاحتمال أن يعطيه ‏(‏فإن منعه تيمم‏)‏ لأن بالمنع صار عادما للماء، وإن تيمم قبل الطلب جاز عند أبي حنيفة لأنه عاجز ولا يجب عليه الطلب؛ وعند أبي يوسف لا يجوز لأن الماء مبذول عادة فصار كالموجود، وعلى قياس قول محمد إن غلب على ظنه أنه يعطيه لا يجوز، وإلا يجوز ‏(‏ويشتري الماء بثمن المثل إذا كان قادرا عليه‏)‏ لأن القدرة على البدل قدرة على المبدل ‏(‏ولا يجب عليه أن يشتريه بأكثر‏)‏ والكثير‏:‏ ما فيه غبن فاحش، وهو ضعف ثمن المثل في ذلك المكان لأنه ضرر به‏.‏ وروى الحسن عن أبي حنيفة إذا قدر أن يشتري ما يساوي درهما بدرهم ونصف لا يتيمم؛ وقيل يعتبر الغبن الفاحش، وهو ما لا يدخل تحت تقويم المقوّمين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يجمع بين الوضوء والتيمم، فمن كان به جراحة‏)‏ يضرها الماء ووجب عليه الغسل ‏(‏غسل بدنه إلا موضعها ولا يتيمم لها‏)‏ وكذلك إن كانت الجراحة في شيء من أعضاء الوضوء غسل الباقي إلا موضعها، ولا يتيمم لها وإن كان الجراح أو الجدري في أكثر جسده فإنه يتيمم ولا يغسل بقية جسده، لأن الجمع بينهما جمع بين البدل والمبدل ولا نظير له في الشرع، بخلاف الجمع بين التيمم وسؤر الحمار، لأن الفرض يتأدى بأحدهما لا بهما، فجمعنا بينهما لمكان الشك‏.‏ وإن كان النصف جريحا والنصف صحيحا لا رواية فيه؛ واختلف فيه المشايخ؛ فمنهم من أوجب التيمم لأنه طهارة كاملة، ومنهم من أوجب غسل الصحيح ومسح الجريح إذا لم يضره المسح لأنها طهارة حقيقية وحكمية فكان أولى، والأول أحسن‏.‏

باب المسح على الخفين

الأصل في جوازه السنة، وهي ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليها، والمقيم يوما وليلة» وقال الحسن البصري‏:‏ حدثني سبعون رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوه يمسح على الخفين‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ من أنكر المسح على الخفين يخاف عليه الكفر، فإنه ورد فيه من الأخبار ما يشبه التواتر‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ يجوز نسخ القرآن بمثله‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لولا أن المسح لا يختلف فيه لما مسحنا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز لمن وجب عليه الوضوء لا الغسل‏)‏ لحديث صفوان قال‏:‏ «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها لا عن جنابة، لكن عن بول أو غائط أو نوم» ‏(‏ويشترط لبسهما على طهارة كاملة‏)‏ سواء أكملت قبل اللبس أو بعده، حتى لو غسل رجليه ثم لبس خفيه، ثم أكمل الطهارة جاز المسح‏.‏ وكمال الطهارة شرط عند الحدث، لأن الخف يمنع سراية الحدث إلى الرجل، ولا يرفعه فيظهر حكمه عند الحدث فيعتبر الشرط عنده‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويمسح المقيم يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها‏)‏ للحديث أولها ‏(‏عقيب الحدث بعد اللبس‏)‏ لأن ما قبل ذلك فهي طهارة الغسل لا المسح، لأن الخف جعل مانعا من سراية الحدث، وذلك عند الحدث لا قبله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويمسح على ظاهرهما‏)‏ حتى لو مسح باطنه أو عقبه أو ساقه لا يجوز لقول علي رضي الله عنه‏:‏ لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح، لكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهرهما ‏(‏خطوطا بالأصابع‏)‏‏.‏ قال ‏(‏وفرضه مقدار ثلاثة أصابع من اليد‏)‏ ذكره محمد وهو الأصح، لأنها آلة المسح‏.‏

وقال الكرخي‏:‏ من أصابع الرجل؛ ولو أصاب موضع المسح ماء قدر ثلاث أصابع جاز، وكذلك لو مشى في حشيش مبتل بالمطر؛ ولو كان مبتلا بالطل قيل يجوز لأنه ماء، وقيل لا، لأنه نفس دابة من البحر يجذبه الهواء إلى الأرض ‏(‏والسنة أن يبدأ من أصابع الرجل إلى الساق‏)‏ هكذا نقل فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولو بدأ من الساق إلى الأصابع جاز لحصول المقصود إلا أنه خلاف السنة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يجوز على خف فيه خرق يبين منه مقدار ثلاثة أصابع من أصابع الرجل الصغار‏)‏ وإن كان أقل من ذلك يجوز، لأن خفاف الناس لا تخلو عن القليل، فلو اعتبرناه لخرجوا، ولا كذلك الكبير، ولأن الكبير يمنع المشي المعتاد، فلا يجوز المسح عليه كاللفافة ولا كذلك القليل، والخرق المانع أن يكون منفرجا يظهر ما تحته حتى لو كان طولا، أو كان الخف قويا لا يبين ما تحته لا يمنع، لأن المعتبر الظهور حتى يجب الغسل، فإذا لم يظهر لا يؤثر؛ ولو كان الخرق تحت القدم، فإن كان أكثر القدم منع، وإن كان فوق الكعبين لم يمنع وإن كثر، واعتبر ثلاثة أصابع لأنها أكثر الرجل والأصابع هي الأصل في القدم، واعتبرنا الصغار احتياطا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وتجمع خروق كل خف على حدته‏)‏ ولا يجمع خروق الخفين، ولو كانت النجاسة في خفي المصلي أو ثوبيه أو ثوبه وبدنه تجمع، لأن النجاسة مانعة من الصلاة لعينها، وحرق الخف ليس مانعا لعينه، بل لكونه مانعا من تتابع المشي، وذلك في الواحد لا في الخفين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز المسح على الجرموق فوق الخف‏)‏ لما روي أنه عليه الصلاة والسلام مسح على الجرموقين، ولأنهما كخف ذي طاقين، ومعناهما إذا لبسهما على الخفين قبل الحدث، حتى لو لبسهما بعد الحدث أو بعد ما مسح على الخف لا يمسح عليهما، لأن الحدث حل الخف؛ ويجوز المسح على المكعب إذا ستر الكعبين، وكذا إذا كانت مقدمته مشقوقة، إلا أنها مشدودة أو مزررة لأنها بمنزلة المخرزة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز على الجوربين إذا كانا ثخينين أو ملجدين أو منعلين‏)‏ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه مسح على الجوربين»‏.‏ وروي ذلك عن عشرة من الصحابة رضي الله عنهم‏.‏

وكان أبو حنيفة رضي الله عنه أولا يقول‏:‏ لا يجوز إلا أن يكونا منعلين، لأنه لا يقطع فيهما المسافة، ثم رجع إلى ما ذكرنا وعليه الفتوى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وينقضه ما ينقض الوضوء‏)‏ لأنه ينقض الغسل فلأن ينقض المسح أولى‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ونزع الخف‏)‏ لأنه المانع من سراية الحدث إلى الرجل، فإذا نزعه زال المانع، ولأن الجواز دفعا لحرج النزع، ولم يبق فيغسلهما كما قبل اللبس، وكذلك نزع أحد خفيه لأنه يجب غسلهما، فيجب غسل الأخرى لئلا يجمع بين الأصل والبدل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ومضي المدة‏)‏ لأنه رخصة ثبتت مؤقتة فتزول بمضي الوقت كالمستحاضة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإذا مضت المدة نزعهما وغسل رجليه‏)‏ لما بينا ‏(‏وخروج القدم إلى ساق الخف نزع‏)‏ لأنه لا يمكنه المشي فيه كذلك ولو خرج بعضه‏.‏ قال أبو حنيفة‏:‏ إن خرج أكثر عقبه إلى الساق بطل مسحه لما تقدم‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ ما لم يخرج أكثر القدم إلى الساق لا يبطل لأن للأكثر حكم الكل‏.‏ وقال محمد‏:‏ إن بقي من القدم مقدار ثلاثة أصابع لم يبطل لبقاء محل المسح‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولو مسح مسافر ثم قام بعد يوم وليلة نزع‏)‏ لأن الثلاث مدة السفر، ولا سفر فلا يجوز ‏(‏وقبال ذلك يتم يوما وليلة‏)‏ لأنه مقيم فليستكمل مدة الإقامة ‏(‏ولو مسح مقيم ثم سافر قبل يوم وليلة تمم مدة المسافر‏)‏ لأنه مسافر، فإن الحكم يتعلق بآخر الوقت كما في المسألة المتقدمة بخلاف ما إذا سافر بعد يوم وليلة، لأن الحدث سرى إلى الرجل فلا بد من الغسل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يجوز المسح على العمامة والقلنسوة والبرقع والقفازين‏)‏ واللفافة، لأن المسح ثبت في الخفين للحرج، ولا حرج في نزع هذه الأشياء‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز‏)‏ المسح ‏(‏على الجبائر‏)‏ وليس بفرض عند أبي حنيفة، وهو الصحيح حتى لو تركه من غير ضرر جاز‏.‏ وقالا‏:‏ لا يجوز‏.‏ لهما ما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليا حين كسرت زنده يوم أحد بالمسح عليها»‏.‏ وقياسا على الخف‏.‏ وله أن المسح بدل عن الغسل ولا يجب غسل ما تحت الجبيرة لو ظهر بخلاف ما تحت الخف وحديث علي لا يوجب الفرضية لأنه خبر آحاد‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏و‏)‏ يجوز ‏(‏إن شدها على غير وضوء‏)‏ لأن في اعتباره حرجا، ولأن غسل ما تحتها سقط بخلاف ما تحت الخفين ‏(‏فإن سقطت عن برء بطل‏)‏ لأن المسح للعذر وقد زال، بخلاف ما إذا سقطت لا عن برء لم يبطل المسح، لأن العذر باق، وإن كانت الجبيرة زائدة على رأس الجرح، فإن كان حل الخرقة وغسل ما تحتها يضره مسح على الكل، وإن كان لا يضره ذلك غسل ما حول الجراحة ومسح عليها لا على الخرقة، وإن كان يضره المسح دون الحل مسح على الخرقة التي على الجرح وغسل حواليها وما تحت الخرقة الزائدة، لأن جواز المسح للضرورة فيتقدر بقدرها، وهذا التفصيل عن الحسن بن زياد، وهكذا الكلام في عصابة الفصاد والقروح والجراحات‏.‏ وعلى هذا لو وضع على شقاق رجليه دواء لا يصل الماء تحته يجري الماء على ظاهر الدواء لما ذكرنا‏.‏

باب الحيض

الحيض في اللغة‏:‏ السيلان، يقال حاضت الأرنب‏:‏ إذا سال منها الدم، وحاضت الشجرة‏:‏ إذا سال منها الصمغ‏.‏ وفي الشرع‏:‏ سيلان دم مخصوص من موضع مخصوص في وقت معلوم‏.‏ والدماء ثلاثة‏:‏ حيض ‏(‏وهو الدم الذي تصير المرأة به بالغة‏)‏ بابتدائه الممتد إلى وقت معلوم، قاله الكرخي‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا صلاة لحائض إلا بخمار»‏.‏ أي بالغة‏.‏ وقال الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري‏:‏ الحيض هو الدم الذي ينفضه رحم المرأة السليمة عن الصغر والداء‏.‏ واستحاضة‏:‏ وهو الدم الخارج من الفرج دون الرحم‏.‏ ونفاس‏:‏ وهو ما يخرج مع الولد أو عقيبه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وأقل الحيض ثلاثة أيام ولياليها، وأكثره عشرة بلياليها‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أقل الحيض للجارية البكر والثيب ثلاثة أيام بلياليها، وأكثره عشرة أيام بلياليها» وعن أبي يوسف‏:‏ أقله يومان، وأكثر الثالث إقامة للأكثر مقام الكل، ولا اعتبار به لأنه تنقيص عن تقدير الشرع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وما نقص عن أقله وما زاد على أكثره‏)‏ استحاضة، لأنه زائد على تقدير الشرع، فلا يكون حيضا وليس بنفاس فيكون استحاضة، لأن الدماء الخارجة عن الرحم منحصرة في هذه الثلاثة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وما تراه الحامل استحاضة‏)‏ لأنها لا تحيض لأن بالحمل ينسد فم الرحم، ويصير دم الحيض غذاء للجنين فلا يكون حيضا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وهو لا يمنع الصوم ولا الصلاة ولا الوطء‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام للمستحاضة‏:‏ «توضئي وصلي وإن قطر الدم على الحصير قطرا» وفي حديث آخر»‏.‏ إنما هو دم عرق انفجر»‏.‏ ولا يمنع كالرعاف‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وما تراه المرأة من الألوان في مدة حيضها حيض حتى ترى البياض الخالص‏)‏ لما روي «أن النساء كن يعرضن الكراسف على عائشة، فكانت إذا رأت الكدرة قالت‏:‏ لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء»‏.‏ أي البياض الخالص‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ لا تكون الكدرة حيضا إلا بعد الدم، لأن الكدرة ما يتكدر، وأول الشيء لا يتكدر‏.‏ ولنا ما روينا عن عائشة من غير فصل، ولأنها من ألوان الدم، فسواء كانت أولا وآخرا كغيرها من الألوان، وقوله‏:‏ أول الشيء لا يتكدر‏.‏ قلنا‏:‏ لم قلت إن هذا أوله وهذا إنما يكون في إناء يسيل من أعلاه وهذا يسيل من أسفله‏؟‏ فيجب أن تكون الكدرة أولا كالجرة يثقب أسفلها فإنه يسيل الكدر أولا كذا هذا‏.‏ وحكم الحيض والاستحاضة والنفاس إنما يثبت بخروج الدم إلى الفرج الخارج، لأنه ما لم يظهر فهو في معدنه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والطهر المتخلل في المدة حيض‏)‏ لأن المدة لا تستوعب بالدم فاعتبر أولها وآخرها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وهو يسقط عن الحائض الصلاة أصلا، ويحرم عليها الصوم فتقضيه‏)‏ لقول عائشة‏:‏ «كن النساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضين الصوم ولا يقضين الصلاة»‏.‏ ولأن الصلاة تتكرر في كل شهر وكل يوم فتحرج في القضاء، والصوم في السنة مرة فلا حرج ‏(‏ويحرم وطؤها‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقربوهن حتى يطهرن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏ والنهي للتحريم، وإن وطئها في الحيض إن كانا طائعين إثما، ويكفيهما الاستغفار والتوبة، لقول الصديق رضي الله عنه لمن سأله عن ذلك‏:‏ استغفر الله ولا تعد‏.‏ وإن كان أحدهما طائعا والآخر مكرها أثم الطائع وحده‏.‏

قال في الفتاوى‏:‏ وهذا في الحكم، ويستحب أن يتصدق بدينار أو نصف دينار‏.‏ قيل‏:‏ معناه إن كان في أول الحيض فدينار، وفي آخره نصفه‏.‏ وقيل‏:‏ إن كان الدم أسود فدينار، وإن كان أصفر فنصفه، وبجميع ذلك ورد الحديث ‏(‏ويكفر مستحله‏)‏ لأن حرمته ثبتت بالكتاب والإجماع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويستمتع بها ما فوق الإزار‏)‏ لقول ابن عمر‏:‏ «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما يحل للرجل من امرأته الحائض‏؟‏ قال‏:‏ ما فوق الإزار» وعن عائشة قالت‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض» وقال محمد‏:‏ يجتنب شعار الدم وله ما سواه، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «يصنع الرجل بامرأته الحائض كل شيء إلا الجماع»‏.‏ ولهما ما روينا، وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «له ما فوق الإزار وليس له ما دونه»‏.‏ أي له أن يستمتع بما فوق السرة لا بما تحتها‏.‏

وفيما قال محمد‏:‏ رتع حول الحمى فيمنع منه حذرا من الوقوع فيه ‏(‏وإن انقطع دمها لأقل من عشرة أيام لم يجز وطؤها حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة، وإن انقطع لعشرة جاز قبل الغسل‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يطهرن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏ بالتخفيف والتشديد، فمعنى التخفيف حتى ينقطع حيضها فحملناه على العشرة، ومعنى التشديد حتى يغتسلن فحملناه على ما دونها عملا بالقراءتين، ولأن ما قبل العشرة لا يحكم بانقطاع الحيض لاحتمال عود الدم، فيكون حيضا، فإذا اغتسلت أو مضى عليها وقت صلاة دخلت في حكم الطاهرات، وما بعد العشرة حكمنا بانقطاع الحيض، لأنها لو رأت الدم لا يكون حيضا فلهذا حل وطؤها‏.‏ وقال زفر‏:‏ لا يحل وطؤها حتى تغتسل وإن انقطع لعشر أيام، عملا بقراءة التشديد وجوابه ما مر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وأقل الطهر خمسة عشر يوما‏)‏ هكذا روي عن إبراهيم النخعي ولا يعرف إلا توقيفا ‏(‏ولا حد لأكثره‏)‏ لأنه يستمر مدة كثيرة فلا يتقدر‏.‏

فصل ‏[‏وضوء المستحاضة ومن به سلس البول ونحوهما عند كل صلاة‏]‏

‏(‏المستحاضة ومن به سلس البول وانطلاق البطن وانفلات الريح والرعاف الدائم والجرح الذي لا يرقأ، يتوضؤون لوقت كل صلاة ويصلون به ما شاؤوا‏)‏

لرواية ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «تتوضأ المستحاضة لوقت كل صلاة» وقال عليه الصلاة والسلام لفاطمة بنت أبي حبيش حين قالت له إني أستحاض فلا أطهر‏:‏ «توضئي لوقت كل صلاة»‏.‏ وعليه يحمل قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «المستحاضة تتوضأ لكل صلاة»‏.‏ لأنه يراد بالصلاة الوقت‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت» ويقال‏:‏ آتيك لصلاة الظهر‏:‏ أي لوقتها‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإذا خرج الوقت بطل وضوؤهم، فيتوضؤون لصلاة أخرى‏)‏ لما روينا‏.‏ وطهارة المعذور تنتقض بخروج الوقت عند أبي حنيفة ومحمد، وعند زفر بالدخول، وعند أبي يوسف بأيهما كان‏.‏ وثمرة الخلاف تظهر في مسألتين‏:‏ إذا توضأ للصبح ثم طلعت الشمس، وإذا توضأ بعد طلوع الشمس للعيد أو للضحى ثم دخل وقت الظهر، فعندهما ينتقض في الأولى للخروج، ولا ينتقض في الثانية لعدمه، وعند زفر بالعكس، وعند أبي يوسف ينتقض فيهما لأنها طهارة مع المنافي فتتقدر بالوقت، فلا تعتبر قبله ولا بعده، ولزفر أنها لو لم تبطل بالدخول لزادت على وقت صلاة وأنه خلاف النص‏.‏ ولهما أنها تثبت للحاجة‏.‏ وخروج الوقت دليل زوال الحاجة، والدخول دليل الوجوب، فتعلق الانتقاض بالخروج أولى‏.‏ وقول زفر‏:‏ يلزمه مثله فيما إذا توضأ قبل طلوع الشمس‏.‏ وقولنا انتقض وضوءهم بخروج الوقت‏:‏ أي عنده، لكن بالحدث السابق فإن الصلاة مع الدم رخصة، لأن الوضوء لا يرفع حدثا وجد بعده‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والمعذور هو الذي لا يمضي عليه وقت صلاة إلا والحدث الذي ابتلي به موجود‏)‏ حتى لو انقطع الدم وقتا كاملا خرج من أن يكون صاحب عذر من وقت الانقطاع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا زاد الدم على العشرة ولها عادة‏)‏ معروفة ‏(‏فالزائد على عادتها استحاضة‏)‏ لأن بالزيادة على العشرة علم كونها مستحاضة فترد إلى أيام أقرائها‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام للمستحاضة‏:‏ «دعي الصلاة أيام أقرائك ثم توضئي وصلي» قال‏:‏ ‏(‏وإذا بلغت مستحاضة فحيضها عشرة من كل شهر‏)‏ لأنها مدة صالحة للحيض فلا تخرج بالشك ‏(‏والباقي استحاضة‏)‏ لما تقدم‏.‏

فصل ‏[‏النفاس‏]‏

‏(‏النفاس‏:‏ الدم الخارج عقيب الولادة‏)‏ لأنه مشتق من تنفس الرحم بالدم أو من خروج النفس، وهو الولد أو الدم والكل موجود‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا حد لأقله، وأكثره أربعون يوما‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «تقعد النفساء أربعين يوما إلا أن ترى طهرا قبل ذلك»‏.‏ قدر الأكثر ولم يقدر الأقل، ولو كان له حد لقدره، ولأن خروج الولد دليل خروج الدم من الرحم فاستغنى عن التقدير ولا دليل في الحيض، فاحتجنا إلى التقدير ليستدل بدوامه على أنه من الرحم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا جاوز الدم الأربعين ولها عادة فالزائد عليها استحاضة، فإن لم يكن لها عادة فنفاسها أربعون‏)‏ وقد بيناه في الحيض‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والنفاس في التوأمين عقيب الأول‏)‏‏.‏

وقال محمد وزفر‏:‏ عقيب الأخير، فلو كان بين الولادتين أقل من ستة أشهر فلا نفاس لها من الثاني، وعند محمد‏:‏ ما بينهما استحاضة والنفاس من الثاني‏.‏ له أن النفاس والحيض سواء من حيث المخرج، والمانعية من الصوم والصلاة والوطء والحيض لا يوجد من الحامل، فكذا النفاس‏.‏ ولهما ما ذكرنا من حد النفاس وقد وجد، بخلاف الحيض لما ذكرنا أنه ينسد فم الرحم بالحمل فلا تحيض، والعدة تنقضي بالأخير إجماعا، لأنه معلق بوضع الحمل، فيتناول الجميع وهي حامل بعد الأول‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والسقط الذي استبان بعض خلقه ولد‏)‏ فتصير به نفساء، وتنقضي به العدة، وتصير الأمة به أم ولد، وينزل الشرط المعلق بمجيء الولد أخذا بالاحتياط‏.‏

باب الأنجاس وتطهيرها

‏(‏النجاسة غليظة وخفيفة‏)‏ فالغليظة عند أبي حنيفة ما ورد في نجاسته نص ولم يعارضه آخر، ولا حرج في اجتنابه وإن اختلفوا فيه، لأن الاجتهاد لا يعارض النص‏.‏ والمخففة ما تعارض نصان في طهارته ونجاسته، وعندهما المغلظة‏:‏ ما اتفق على نجاسته ولا بلوى في إصابته، والمخففة‏:‏ ما اختلف في نجاسته، لأن الاجتهاد حجة شرعية كالنص‏.‏ قال ‏(‏فالمانع من الغليظة أن يزيد على قدر الدرهم مساحة إن كان مائعا، ووزنا إن كان كثيفا‏)‏ وهو أن تكون مثل عرض الكف، لقول عمر رضي الله عنه‏:‏ إذا كانت النجاسة قدر ظفري هذا لا تمنع جواز الصلاة حتى تكون أكثر منه، وظفره كان قريبا من كفنا‏.‏ وعن محمد‏:‏ الدرهم الكبير المثقال‏:‏ أي ما يكون وزنه مثقالا، فيحمل الأول على المساحة إن كان مائعا، وقول محمد على الوزن إن كان مستجسدا‏.‏ قال النخعي‏:‏ أرادوا أن يقولوا قدر المقعدة فكنوا بقدر الدرهم عنه، وإنما قدره أصحابنا بالدرهم، لأن قليل النجاسة عفو بالإجماع كالتي لا يدركها البصر ودم البعوض والبراغيث، والكثير معتبر بالإجماع، فجعلنا الحد الفاصل قدر الدرهم أخذا من موضع الاستنجاء، فإن بعد الاستنجاء بالحجر إن كان الخارج قد أصاب جميع المخرج يبقى الأثر في جميعه، وذلك يبلغ قدر الدرهم، والصلاة جائزة معه إجماعا، فعلمنا أن قدر الدرهم عفو شرعا‏.‏ ‏(‏والمانع من الخفيفة أن يبلغ ربع الثوب‏)‏ لأن للربع حكم الكل في أحكام الشرع كمسح الرأس وحلقه، ثم قيل ربع جميع الثوب، وقيل ربع ما أصابه كالكم والذيل والدخريص، وعند أبي يوسف شبر في شبر، وعند محمد ذراع في ذراع، وعنه موضع القدمين، والمختار الربع، وعن أبي حنيفة أنه غير مقدر، وهو موكول إلى رأي المبتلى لتفاوت الناس في الاستفحاش ‏(‏وكل ما يخرج من بدن الإنسان وهو موجب للتطهير فنجاسته غليظة‏)‏ كالغائط والبول والدم والصديد والقيء، ولا خلاف فيه، وكذلك المني لقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة‏:‏ «إن كان رطبا فاغسليه، وإن كان يابسا فافركيه» وقوله عليه الصلاة والسلام لعمار بن ياسر‏:‏ «إنما يغسل الثوب من المني والبول والدم»‏.‏

ولو أصاب البدن وجف‏.‏ روى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يطهر بالفرك‏.‏ وذكر الكرخي عن أصحابنا أنه يطهر، لأن البلوى فيه أعم، والاكتفاء بالفرك لا يدل على طهارته، فإن الصحيح عن أبي حنيفة أنه يقل بالفرك فتجوز الصلاة فيه، حتى إذا أصابه الماء يعود نجسا عنده، خلافا لهما، ثم رأينا كل ما يوجب الطهارة كالغائط والبول ودم الحيض والنفاس نجسا، فقلنا بنجاسة المني لأنه يوجب أكبر الطهارات، وكونه أصل الآدمي لا يوجب طهارته كالعلقة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وكذلك الروث والأخثاء‏)‏ وبول ما لا يؤكل لحمه من الدواب عند أبي حنيفة، لأن نجاستها ثبتت بنص لم يعارضه غيره وهو قوله عليه الصلاة والسلام في الروث»‏.‏ إنه رجس»‏.‏ والأخثاء مثله، وعندهما مخففة لعموم البلوى به في الطرقات ووقوع الاختلاف فيه؛ فعند مالك الأرواث كلها طاهرة، وعند زفر روث ما يؤكل لحمه طاهر‏.‏ ولأبي حنيفة أنه استحال إلى نتن وفساد، وهو منفصل عن حيوان يمكن التحرز عنه فصار كالآدمي والضرورة في النعال، وقد قلنا بالتخفيف فيها حتى تطهر بالمسح، وبما ذكرنا من الحديث والمعقول خرج الجواب عن قول مالك وزفر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏و‏)‏ كذلك ‏(‏بول الفأرة‏)‏ وخرؤها لما تقدم، ولإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «استنزهوا من البول»‏.‏

والاحتراز عنه ممكن في الماء، غير ممكن في الطعام والثياب فيعفى عنه فيهما‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏و‏)‏ كذلك البول ‏(‏الصغير والصغيرة أكلا أو لا‏)‏ لما روينا من غير فصل، وما روي من نضح بول الصبي إذا لم يأكل، فالنضح يذكر بمعنى الغسل‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام لما سئل عن المذي‏:‏ «انضح فرجك بالماء»‏.‏ أي اغسله، فيحمل عليه توفيقا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والمني نجس يجب غسل رطبه، ويجزئ الفرك في يابسه‏)‏ وقد بينا الوجه فيه‏.‏ وفي الفتاوى‏:‏ مرارة كل شيء كبوله في الحكم، وإذا اجتر البعير فأصاب ثوب إنسان فحكمه حكم سرقينه لوصوله إلى جوفه كالماء إذا وصل إلى جوفه حكمه حكم بوله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا أصاب الخف نجاسة لها جرم كالروث‏)‏ والعذرة ‏(‏فجف فدلكه بالأرض جاز، والرطب وما لا جرم له كالخمر‏)‏ والبول ‏(‏لا يجوز فيه إلا الغسل‏)‏ وهذا عند أبي حنيفة‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ يجزئ المسح فيهما إلا البول والخمر‏.‏ وقال محمد‏:‏ لا يجوز فيهما إلا الغسل كالثوب، ولأبي يوسف إطلاق قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إذا أصاب خف أحدكم أو نعله أذى فليدلكهما في الأرض وليصل فيهما، فإن ذلك طهور لهما»‏.‏ من غير فصل بين اليابس والرطب والمستجد وغيره وللضرورة العامة، وعليه أكثر المشايخ؛ لأبي حنيفة هذا الحديث إلا أن الرطب إذا مسح بالأرض يتلطخ به الخف أكثر مما كان فلا يطهره بخلاف اليابس، لأن الخف لا يتداخله إلا شيء يسير وهو معفو عنه، ولا كذلك البول والخمر لأنه ليس فيه ما يجتذب مما على الخف فيبقى على حاله، حتى لو لصق عليه طين رطب فجف ثم دلكه جاز كالذي له جرم، يروى ذلك عن أبي يوسف، وبخلاف الثوب لأنه متخلل فتتداخله أجزاء النجاسة فلا تزول بالمسح فيجب الغسل‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏والسيف والمرآة يكتفى بمسحهما‏)‏ فيهما لأنهما لصلابتهما لا يتداخلهما شيء من النجاسة فيزول بالمسح‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا أصابت الأرض نجاسة فذهب أثرها جازت الصلاة عليها دون التيمم‏)‏ لأن طهارة الصعيد ثبتت شرطا بنص الكتاب فلا يتأدى بما ثبت بالحديث‏.‏ وقال زفر‏:‏ لا تجوز الصلاة كالتيمم‏.‏

ولنا أن الأرض تنشف والهواء يجذب ما ظهر منها، فقلت‏:‏ والقليل لا يمنع جواز الصلاة ويمنع التيمم‏.‏ وروى ابن كاس عن أصحابنا جواز التيمم أيضا للحديث، لأن النجاسة استحالت إلى أجزاء الأرض، لأن من شأن الأرض جذب الأشياء إلى طبعها، وبالاستحالة تطهر كالخمر إذا تخللت فيجوز التيمم، وإذا أصابت الأرض نجاسة، إن كانت رخوة يصب عليها الماء فتطهر لأنها تنشف الماء فيطهر وجه الأرض، وإن كانت صلبة يصب الماء عليها ثم تكبس الحفيرة التي اجتمع فيها الغسالة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وبول ما يؤكل لحمه، وبول الفرس، ودم السمك، ولعاب البغل والحمار وخرء ما لا يؤكل لحمه من الطيور نجاسته مخففة‏)‏ أما بول ما يؤكل لحمه فطاهر عند محمد لحديث العرنيين، ويدخل فيه بول الفرس عنده أيضا، ولهما أنه استحال إلى نتن وخبث فيكون نجسا كبول ما لا يؤكل لحمه، إلا أنا قلنا بتخفيفه للتعارض، وحديث العرنيين نسخ كالمثلة، ودم السمك ليس بدم حقيقة لأنه يبيض بالشمس‏.‏ وعن أبي يوسف أنه نجس، فقلنا بخفته لذلك، ولعاب البغل والحمار لتعارض النصوص، وخرء ما لا يؤكل لحمه من الطيور لعموم البلوى، فإنه لا يمكن الاحتراز عنه، لأنها تزرق من الهواء‏.‏ وعند محمد نجاسته غليظة لأنها لا تخالط الناس فلا بلوى، وجوابه ما قلنا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وخرء ما يؤكل لحمه من الطيور طاهر‏)‏ لإجماع المسلمين على ترك الحمامات في المساجد، ولو كان نجسا لأخرجوها خصوصا في المسجد الحرام‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏إلا الدجاج والبط الأهلي فنجاستهما غليظة‏)‏ بالإجماع‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا انتضح عليه البول مثل رؤوس الإبر فليس بشيء‏)‏ لأنه لا يمكن الاحتراز عنه وفيه حرج فينتفي، وليس بول الخفافيش وخرؤها ولا دم البق والبراغيث بشيء لما ذكرنا‏.‏ قال الكرخي‏:‏ وما يبقى من الدم في اللحم والعروق طاهر‏.‏ وعن أبي يوسف أنه معفو في الأكل دون الثياب‏.‏

فصل ‏[‏جوز إزالة النجاسة بالماء‏]‏

‏(‏ويجوز إزالة النجاسة بالماء‏)‏ ولا خلاف فيه‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ثم اغسليه بالماء» قال‏:‏ ‏(‏وبكل مائع طاهر‏)‏ ينعصر بالعصر ‏(‏كالخل وماء الورد‏)‏ وما يعتصر من الشجر والورق‏.‏ وقال محمد وزفر‏:‏ لا يجوز إلا بالماء‏.‏ وعن أبي يوسف في البدن روايتان لمحمد‏:‏ قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ثم اغسليه بالماء» ولو جاز بغير الماء لما كان في التعيين فائدة، وبالقياس على الحكمية‏.‏ ولهما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وثيابك فطهر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 4‏]‏ وتطهير الثوب إزالة النجاسة عنه وقد وجد في الخل حقيقة، والمراد من الحديث الإزالة مطلقا حتى لو أزالها بالقطع جاز، والإزالة تتحقق بما ذكرنا كما في الماء لاستوائهما في الموجب للزوال من ترقيق النجاسة واختلاطها بالمائع بالدلك وتقاطرها بالعصر شيئا فشيئا إلى أن تفنى بالكلية، وذكر الماء في الحديث ورد على ما هو المعتاد غالبا لا للتقييد به لما ذكرنا، والقياس على الحكمية لا يستقيم لأنها عبادة لا يعقل معناها، ألا ترى أنه يجب غسل غير موضع النجاسة، فيقتصر على مورد الشرع وهو الماء، أما الحقيقة فالمقصود إزالة النجاسة وقد زالت لما بينا‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏فإن كان لها عين مرئية فطهارتها زوالها‏)‏ لأن الحكم بالنجاسة بقيام عينها فينعدم بزوالها، فلو زالت بالغسلة الواحدة طهرت عند بعضهم، وهو مقتضى ما ذكره في الكتاب وعند بعضهم يشترط غسله بعدها مرتين اعتبارا بغير المرئية‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يضر بقاء أثر يشق زواله‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام في دم الحيض‏:‏ «اغسليه ولا يضرك أثره» ودفعا للحرج قال‏:‏ ‏(‏وما ليس بمرئية فطهارتها أن يغسله حتى يغلب على ظنه طهارته‏)‏ لأن غلبة الظن دليل في الشرعيات لا سيما عند تعذر اليقين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويقدر بالثلاث أو بالسبع قطعا للوسوسة، ولا بد من العصر في كل مرة، وكذلك يقدر على الاستنجاء‏)‏ وذكر في المبسوط لا يحكم بزوالها قبل الثلاث لحديث المستيقظ‏.‏ وفي المنتقى عن أبي يوسف‏:‏ إذا غسله مرة سابغة طهر، وما لا ينعصر بالعصر كالآجر والخزف، والحنطة إذا تشربت فيها النجاسة، والجلد إذا دبغ بالدهن النجس، والسكين إذا موه بالماء النجس، واللحم إذا طبخ بالماء النجس‏.‏ قال محمد‏:‏ لا يطهر أبدا لعدم العصر‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ طهارته أن يغسل ثلاثا، وتموه السكين بالماء الطاهر ثلاثا، وتطبخ الحنطة واللحم بالماء الطاهر ثلاثا، ويجفف في كل مرة‏.‏

فصل ‏[‏الاستنجاء‏]‏

‏(‏والاستنجاء سنة من كل ما يخرج من السبيلين إلا الريح‏)‏ اعلم أن الاستنجاء على خمسة أوجه‏:‏ واجبان‏:‏ أحدهما غسل نجاسة المخرج في الغسل عن الجنابة والحيض والنفاس كي لا يشيع في بدنه‏.‏ والثاني إذا تجاوزت مخرجها يجب عند محمد قل أو كثر، وهو الأحوط لأنه يزيد على قدر الدرهم، وعندهما يجب إذا تجاوز قدر الدرهم، لأن ما على المخرج سقط اعتباره لجواز الاستجمار فيه، فيبقى المعتبر ما وراءه‏.‏ والثالث سنة، وهو إذا لم تتجاوز النجاسة مخرجها فغسلها سنة‏.‏ والرابع مستحب، وهو إذا بال ولم يتغوّط يغسل قبله‏.‏ والخامس بدعة، وهو الاستنجاء من الريح إذا لم يظهر الحدث من السبيلين‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويجوز بالحجر وما يقوم مقامه يمسحه حتى ينقيه‏)‏ لأن المقصود الإنقاء، فبأي شيء حصل جاز ‏(‏والغسل‏)‏ بالماء ‏(‏أفضل‏)‏ لأنه أبلغ في الإنقاء والنظافة‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏وإذا تعدت النجاسة المخرج لم يجز إلا الغسل‏)‏ وقد بيناه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ولا يستنجي بيمينه ولا بعظم ولا بروث‏)‏ لنهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك ‏(‏ولا بطعام‏)‏ لما فيه من إضاعة المال وقد نهى عنه، فإن استنجى بهذه الأشياء جاز ويكره لأن المنع لمعنى في غيره فلا يمنع حصول الطهارة كالاستنجاء بثوب الغير ومائه‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏ويكره استقبال القبلة واستدبارها في الخلاء‏)‏ بيوت والصحارى، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا» وعن أبي حنيفة في الاستدبار لا بأس به لأنه غير مقابل للقبلة، وما ينحط من ينحط نحو الأرض، ولا يستعمل في الاستنجاء أكثر من ثلاثة أصابع، ويستنجى بعرضها لا برؤوسها، وكذلك المرأة؛ وقيل تستنجي برؤوس أصابعها‏.‏